فوضى ونهب- هايتي ضحية صراعات القوى العظمى.

في الأسبوعين الماضيين، تصدرت أخبار مأساوية من هاييتي، تلك الدولة الكاريبية المنكوبة، نشرات الأخبار العالمية. اسم هاييتي لطالما ارتبط بالكوارث الطبيعية المدمرة كالزلازل والأعاصير العنيفة والسيول الجارفة، فضلاً عن تاريخ طويل من الاستغلال والتلاعب بمواردها من قبل القوى الاستعمارية المتنفذة.
لكن الأحداث الأخيرة تشير إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية والسياسية المتأزمة. هذه الأوضاع بلغت حدًا منع رئيس الوزراء المؤقت، أرييل هنري، من العودة إلى البلاد، وأجبرته في نهاية المطاف على الاستقالة تحت ضغط العصابات المسلحة، وسط عجز كامل للسلطات الهايتية عن احتواء حالة الانفلات الأمني المستشرية. وعلى الرغم من قتامة هذه الأحداث، فإن الأسباب الجذرية التي قادت هاييتي إلى هذا الوضع المتردي هي أشد مرارة وإيلامًا.
مجلس رئاسي انتقالي
صحيح أن المأساة الفلسطينية، والحرب الشرسة التي تشنها إسرائيل، بدعم سافر من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، على قطاع غزة وسكانه، تطغى على كل الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، إلا أن ما يجري في هاييتي يكشف بوضوح نفاق القوى الكبرى وتكالبها الشرس على استنزاف الدول الضعيفة، سعيًا وراء مصالحها ومكاسبها المادية، دون أدنى اعتبار لشعارات الديمقراطية والعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها التي تتشدق بها ليل نهار.
إن ما تشهده هاييتي في الآونة الأخيرة هو انهيار للدولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فشرارة الأزمة الحالية اندلعت عندما تمكنت عصابات المخدرات والجريمة المنظمة من اقتحام السجن المركزي الرئيسي في العاصمة، وإطلاق سراح السجناء، والسيطرة على الشوارع وشل حركة المطار والموانئ الحيوية. وقد أدى ذلك إلى منع رئيس الوزراء المؤقت، أرييل هنري، من العودة من القمة الإقليمية التي كان يحضرها في جامايكا, ودفعه إلى الاستقالة تحت وطأة الاحتجاجات العارمة ونفوذ العصابات المتزايد.
وقد رأت القوى السياسية الفاعلة في البلاد، بالتنسيق مع أطراف إقليمية ودولية، أن الحل الأمثل يكمن في تشكيل مجلس رئاسي انتقالي، ومنح البلاد فرصة حقيقية للخروج من حالة الانسداد السياسي الراهنة، ورسم مسار واضح المعالم للمشهد السياسي المستقبلي.
ولم يبدُ أرييل هنري معارضًا لهذا القرار، نظرًا لضعف سلطته وتضاؤل نفوذه، وتوقعه لهذه التطورات المتسارعة. وكان هنري قد تولى قيادة البلاد في أعقاب الاغتيال المروع للرئيس السابق جوفينيل مويس في مقر إقامته عام 2021، على يد فرقة كولومبية من القتلة المحترفين، وبمساعدة من ضباط عسكريين هاييتيين متواطئين.
تلك الظروف تكاد تكون مألوفة في هاييتي، فالفترات الانتخابية نادرًا ما تكتمل، وغالبًا ما تشوبها متغيرات جمة تعيق إتمامها منذ أمد بعيد، وتؤخر إجراء انتخابات جديدة. فعلى سبيل المثال، تعاقب على حكم البلاد ثمانية رؤساء خلال الفترة من عام 1911 إلى عام 1915. وفي المقابل، لم تشهد البلاد أي انتخابات رئاسية منذ عام 2016.
اختطاف وابتزاز
في الواقع، عانت هاييتي من تقلبات جمة على مر القرون الخمسة الماضية، حيث تناوبت القوى العظمى على استعمارها، وتفننّت في إبقائها مكبلة بالأغلال، ومنعتها من تحقيق استقلال حقيقي. وقد أدى ذلك إلى تفاقم التباين الصارخ في واقعها المرير: ثروات طائلة مسلوبة ومهدرة، واستعمار مالي جاثم على إيراداتها حتى يومنا هذا، في مقابل فقر مدقع يفتك بـ 63% من سكانها، وعصابات الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات التي تعتاش على "فدية" ابتزاز الأهالي، وعمليات اختطاف الأجانب المتكررة.
كل هذه العوامل مجتمعة جعلتها تصنف كأفقر بلد في القارة الأميركية برمتها. يبلغ عدد سكانها حوالي 11 مليون نسمة، يعيشون على مساحة تقدر بـ 27 ألف كيلومتر مربع. ويبلغ متوسط أعمارهم 24 عامًا، في حين يصنف نصفهم في قائمة الأمية.
وهاييتي، التي تعتبر اليوم أفقر دولة في النصف الغربي من الكرة الأرضية، كانت أولى محطات الغزو الإسباني بقيادة كريستوفر كولومبوس عام 1492، وشكلت مكسبًا ثمينًا للإسبان بفضل الثروات المعدنية والزراعية الوفيرة التي كانت تزخر بها.
ونظرًا للتوسع الهائل الذي حققته الإمبراطورية الإسبانية في ذلك الوقت في جنوب ووسط القارة الأميركية، فقد قامت بتمرير المستعمرة إلى فرنسا عام 1697. وقد أغرقت فرنسا المستعمرة بأعداد هائلة من العبيد تم جلبهم قسرًا من أفريقيا، وحولتها إلى أغنى مستعمرة في القرن الثامن عشر، ما مكنها من إنتاج 60% من احتياجات القهوة للقارة الأوروبية، بالإضافة إلى خيرات أخرى وفيرة كالسكر والمعادن النفيسة.
والمثير للدهشة، أنه في ظل وطأة الاستعمار الفرنسي المتوحش، نجح سكان هاييتي، الذين كانوا يسمون بـ "الدومانغيين" في تلك الفترة، في القيام بأول ثورة للعبيد في التاريخ الحديث، بقيادة الزعيم الملهم توسان لوفرتير. وقد تكللت انتفاضتهم بالنجاح في استعادة حريتهم عام 1793، واضطر البرلمان الفرنسي بعد ذلك بعام واحد إلى إلغاء العبودية في جميع مستعمراته. وتمكنوا في عام 1804 من تحقيق الاستقلال التام عن الاستعمار الفرنسي.
فوضى سياسية
لكن الأمر الأكثر غرابة هو ما حدث بعد ذلك. ففي عام 1825، قام الملك الفرنسي المتشدد، شارل العاشر، بتهديد هاييتي بغزوها مرة أخرى في حال عدم دفع تعويضات مالية باهظة لفرنسا. وكان ذلك بمباركة صريحة من الولايات المتحدة، التي لم تعترف شأنها شأن فرنسا بثورة هاييتي. وقد بلغ المبلغ الذي طالب به شارل العاشر رقمًا فلكيًا قدره 150 مليون فرنك (ما يعادل 21 مليار دولار في الوقت الحالي), مع منح الواردات الفرنسية تخفيضًا بنسبة 50% على رسومها. وقد رضخت هاييتي لهذا الابتزاز واستمرت في تسديد هذه التعويضات لأكثر من قرن، مما أدى إلى تدمير اقتصادها بالكامل وإغراقه في الديون المتراكمة.
والأمر الأكثر إثارة للغضب مما سبق ذكره، هو دخول الولايات المتحدة على خط الاستعمار، بعد أن كانت تراقب منطقة الكاريبي بأطماع خفية في نهاية القرن التاسع عشر.
فالفوضى السياسية العارمة التي شهدتها هاييتي بين عامي 1911 و1915 كانت الذريعة المثالية لها للتدخل. وقد حركت الولايات المتحدة أساطيلها العسكرية لقطع الطريق أمام أي تدخل ألماني محتمل، رافعة شعار التدخل المؤقت لاستعادة الأمن في هاييتي. غير أن هذا التدخل سرعان ما تحول إلى غزو عسكري سافر، واستمر لمدة 19 عامًا.
وبهدف فرض النظام والاستقرار في البلاد، اشترطت واشنطن على هاييتي توقيع معاهدة تمنحها السيطرة الكاملة على الشؤون المالية والجمارك والموانئ. وأسست جيشًا وطنيًا يتكون من قوات هاييتية وأميركية، تحت إمرة البحرية الأميركية.
كما نجحت واشنطن في تثبيت الرئيس فيليب سودري في منصبه حتى عام 1922، على الرغم من الاحتجاجات الشعبية العارمة ضده، ما مكنها من تحقيق أهدافها ومآربها في ظل الاستقرار السياسي الذي فرضته بالقوة في هاييتي.
ووفقًا للعديد من الوثائق التاريخية الموثقة، قامت القوات الأميركية بنهب مخزون بنك هاييتي المركزي من الذهب ونقله إلى بنوك أميركية بحجج واهية، ولم تتم إعادته حتى يومنا هذا.
وعلى الرغم من كل هذه المظالم الفادحة، تجدر الإشارة إلى أن جان برتران أريستيد، الرئيس الهايتي الوحيد الذي تم انتخابه ديمقراطيًا، وطالب فرنسا علنًا بإعادة الأموال التي فرضتها على هاييتي ظلمًا وعدوانًا، قد أطيح به قبل انتهاء ولايته الرئاسية بتدبير فرنسي وأميركي معلن.
قد يبدو استعادة السلم والنظام في هاييتي هدفًا بعيد المنال، إلا أن المؤكد أن القوى الكبرى لو لم تكن منشغلة بأزمات أخرى في مناطق مختلفة من العالم لكان السيناريو القادم في هاييتي مختلفًا تمامًا عما ستشهده من سيناريوهات قاتمة.
